aldlame
عدد المساهمات : 22 تاريخ التسجيل : 17/08/2010
| موضوع: التراث والبيئة: البقارة بين الحروب والعروق الأحد أغسطس 29, 2010 5:31 am | |
| الحروب وأكل العروق:
فى عام 85م وفى بداية الرشاش، كانت طبول الحرب الأهلية تقرع أبواقها فى أقاصى جنوب كردفان، فقد ضرب التمرد قرية القردود وأنتهك الحرمات وقتل الأبرياء ونهبت ثرواتهم وبدأ يخيم جو الحرب على كل المنطقة، فقد أنبرى الشباب إلى ميداين التدريب حتى يجيدوا معرفة إستعمال السلاح تحسباً لكل طارئ، كانت هموم الجميع تنصب وتتحوصل حول مفهوم حماية الثروة الحيوانية من جموع الخوارج التى ينهكها الجوع. فى ذلك العام كانت المجاعة تضرب بأطنابها فى عمق الفرقان والقرى فى جنوب كردفان ومع أشتعال الحروب الأهلية تفاقمت المأساة بسبب المجاعة لتجعل من أناس لا يرغبون فى الحرب ينضمون إلى جيوش الحرب – أنبش – وفى المقابل كان الجيش يغرى المواطنين بجوالات العيش بعد أنقضاء المعركة، هكذا كانت تباع أرواح أبناء البقارة رخيصة بجوالات العيش من أجل الذهاب إلى المعركة. كانت الحروب والمجاعة هى سبب مباشر إلى رد البقارة الرعاة والقرويين البسطاء من أهل ريف جنوب كردفان إلى عصور سحيقة مضت، فقد لجأ البقارة لسد نقص الموارد الغذائية بالألتجاء إلى جمع الثمار وأستخراج الجذور الأرضية، الرايزومات، وإستعمالها كمواد غذائية لسد نقص الموارد الغذائية إما نتيجة للنقص فى المحصول أو بسبب قطع الطرق المؤدية إلى الأسواق بواسطة التمرد. كان هناك رعيل من كبار البقارة الذى يعرفون ما يؤكل من الأشجار ولحائها وعروقها وأوراقها وبدأوا يحفزون الجميع أن يتجهوا نحو حفر العروق وطهيها، فقد أستدار معظم الناس إلى البحث عن ما يسد الرمق، فقد أتجه الشباب إلى سرقة الأغنام والماعز من الزرائب وذبحها ليلاً باسلوب أشبه باللعب والهزل منه إلى الجد، فقد يتفقون إن لم يجدوا شيئاً أن يذبحوا من أغنام والد أحد أفرادهم فى المجموعة، ويتكرر الحال فى المرات القادمة مع أغنام والد اخر من نفس المجموعة، فأختلط حابل السرقة باللعب وأصبحت العملية الرذيلة تستهوى كثير من الشباب الذى وجد متنفس من لوعة الجوع بلحم شهى غصيب. كانت أغنامى تتناقص بسرعة نحو الهلاك بفعل فاعل، فقد قررت أن أذبحها أنا بدل أن يذبحها غيرى، كنت أذبح الخصى فى أصغر مناسبة كزيارة شخص عابرة حتى ملت الأسرة اللحم وطهيه، ومن طرافة الأمر عرف حتى الأهل، حينما أنادى أحدهم يا فلان تفضل معنا، يقول عصيدة أم لحمة، فكنت أقول عصيدة لأنه فى المقابل إن قلت لحم لا يأتى أحداً، ونفس الشيئ صار ينطبق على الأرز، فإن قلت رز باللبن لن يأتيك أحداً، ولعمرى كان ذلك إكتشافاً خطيراً حيث أن الجوع يكون فقط للعصيدة دون غيرها، فالألبان متوفرة واللحوم متوفرة ونستطيع شراء الأرز ولكن فقط أنعدمت الذرة حتى فى الأسواق، فصارت ملوة العيش تباع وتستبدل بالحلوب من الاغنام. كان رأى الناس الكبار نحو الأتجاه إلى حفر العروق يستهوينى فى كثير من الوجوه، أولاً إن صلحت تلك العروق فهى مجانية لا تكلف إلا حفرها وذلك ذو حسنة فائقة بالنسبة لأنسان المنطقة الذى يفقد المقدرة الشرائية حتى فى أوقات الرخاء، ناهيك فى مثل هذا الوقت، فترة مجاعة وبداية الرشاش والحرب يستشرى أوارها، الثانى: إن أهل المنطقة المستقرين لا يجدون ما يأكلون وربما وجدنا لهم مخارج، مما يساعد فى تقليل طلب المساعدة من أصحاب الثروة الحيوانية التى تعانى هزالاً فظيعاً مع بداية الرشاش. لم ينتظر إنسان المنطقة الجائع الأذن من أحد، فقد بدأ الناس فى حفر العروق منذ بداية ظهور المجاعة، لعل المرء يظن خطأ أن أكل تلك العروق هو منقصة أو مذلة عند البقارة الرعاة، بل فى الحقيقة البقارة يحبون أكل كثير من الجذور حتى فى أوقات الرخاء، فهى بمثابة أكلة ترفيهية فى بعض الأوقات، لكن مع دخول المدنية والأنفتاح إلى حياة المدن قل الأرتباط مع خيرات الطبيعة الخام مثل الثمار والبذور والجذور وغيرها. كانت أهم تلك العروق يتمثل فى نوعين: الأول هو عرق الشنقل والثانى: هو عرق أم بيجى، هذه العروق - كما يسميها البقارة - هى فى حقيقتها جذور أرضية تشوبها مرارة قاتلة لا بد أن تتم معالجتها بالغمر فى الماء أياماً أو طباختها لفترات طويلة مع تغيير الماء من الحين إلى الأخر حتى تزول مرارتها. عرق الشنقل ينمو فى الأراضى الطينية فى تخوم الوديان، فى أماكن الطينة القريرة ذات الخصوبة العالية، حيث يخرج عرق أخضر اللون يتسلق الاشجار الأخرى ملتفاً حول سوقها وفى بعض الأحيان ينمو على سوق ضعيفه تنمو بمفردها تحت الأشجار حتى تصل الفروع المتدلية فتتسلقها، أوراق الشنقل عبارة عن أوراق بسيطة غير مركبة تشبه القلب، ناعمة الخضرة ذات خضرة فاقعة تنم عن خصب الأرض التى ينمو عليها وتتفرع تعريقات الورقة التى تظهر فى شكل خطوط بيضاء تشع من مركز قلب الورقة. تلك الأوراق الغضة لا تؤكل، بل هى بمثابة الدليل إلى الجذر الأرضى، فجذر الشنقل عبارة عن رايزومة سوداء تنمو تحت الأرض ويصل الجذر الأرضى إلى حجم قبضة اليد أو اكبر قليلاً فهو فى حجم البطاطس ولكنه أسود اللون وكثير النتوء، فالشخص الذى يفزع لجلب الشنقل يمكنه حصاد كميات مقدرة تتراوح بين الملوة أو الملوتين أو أكثر حسب أجتهاد الفرد ووعورة المنطقة، فالمناطق المكشوفة قد يتم حفرها من قبل، وقد خبر أهالى المنطقة كيفية حفر الجذور، فيتم الحفر فقط لأستخراج الرايزومة دون تقطيع العروق التى تغزى النبات، فتنبت رازيومة أخرى فى أيام قلائل، مما يعنى أستمرارية الأنتاج. بعد حفر الشنقل وأحضاره تقوم النساء بقشرة كالبطاطس، حيث يتم نزع الطبقة الرقيقة الخارجية ويصبح الجذر أصفر فاقع اللون وحتى يقلل سم مرارته الخانقة يتم طباخته لفترات طويلة ويضاف إليه العطرون وعصارة رماد الصحب حتى تمسخ مرارته، ولكن هنا يجب ضبط كمية عصارة أو نقيع الرماد المضاف فإذا زاد عن الحوجة ربما يؤدى إلى أن الشنقل لن تمسخ مرارته بل تزداد بطريقة يصعب معها أكله مما يؤدى إلى إلقاء كل الطبخة ومحاولة طبخة أخرى. عرق أم بيجى، الأخر، يشبه عرق الشنقل وينمو فى بيئات مشابه تماماً وفى بعض الأحيان ينمو فى الأراضى القراديدية وهو أمر وأحدق من الشنقل ولكن هذا العرق يمكن تسميته بالبطاطس البرى، فهو بطاطس ولا يمكن فرزه من البطاطس لا شكلاً ولا لوناً أو فى أسلوب الطهى، والفارق هو مرارته الخانقة التى يمكن إزالتها فقط بعطن أم بيجى فى الماء لمدة تتراوح إلى يومين أو أكثر مع تبديل الماء حتى يمسخ الماء الذى يغمر فيه. هذين العرقين يمثلان أهم أكلات المجاعة عند البقارة، اضف إلى ذلك هناك السلطات البرية، كعرق العركلة، وهى عبارة عن نبات مائى، يتم حصاده من أماكن المياه ويتم توريقة كالخضرة ويعفس بالسمسم أو الفول السودانى، أو بأضافة الشطة والملح وغيرها، كما أن هناك سلطات أخرى كأوراق التبلدى وأوراق الأبنوس وأوراق الأرديب ونبات الرجلة البرية وغيرها، كلها تؤكل فى شكل سلطات. أصبحت تلك العروق تباع حتى فى الأسواق أو يتم أستبدالها بالمحاصيل الأخرى. مع أمتلاك البقارة للثروة التى تدر لهم اللبن ومقدرتهم على صيد الحيوانات البرية كالدجاج البرى والغزال والأرنب ومقدرتهم على أستخراج العسل البرى، تجد أنهم فى مأمن من الموت بسبب المجاعات والتى يقع تاثيرها الأكبر على أهل الريف المستقرين. تعرّض الرعاة البقارة لنفس المجاعات أبان الثورة المهدية، فقد لجأ الرعاة إلى أكل الجذور والثمار وغيرها من المنتجات البرية. ويتناقص تأثير المجاعات تدريجياً عند الرعاة البقارة كلما تنتظم الأمطار فى الهطول حيث يخضر العشب ويمتلأ الضرع فيكثر اللبن ومنتجاته ومشتقاته، فى الجانب الأخر تزداد حالة المستقرين سوءاً كلما إنتظم الخريف، فيتحولون هم بدورهم إلى أكل الأعشاب مثل التمليقة وهى كالسبانخ والعركلة وغيرها، ولا تخف حدة تلك الحالة المزرية حتى تأتى تباشر الموسم الجديد، حيث يأكلون من المحصول الجديد من الزرع فتختفى مجاعتهم. ويعرف الرعاة كم هائل من الثمار التى تأكل أثناء المجاعات وأوقات الحروب وإنقطاع سبل المواصلات أثناء نزول الخريف، فشجر الدليب والدوم والتبلدى أو القنقوليس وغيرها كلها ثمار معروفة للرعاة، كما يأكلون صمغ الأشجار ويستخرجون العسل من النحل البرى.
تكرار المجاعة وتكرار أكل العروق:
تكررت المجاعة فى غضون خمسة أعوام، ففى عام 89م كانت الحروب أكثر حدة وإشتعالاً حيث نهبت ثروات البقارة الرعوية بواسطة التمرد فنزحوا إلى أراضى هامشة بعيدة تاركين البيئات التى ألفوها مجبرين على الأستقرار ومع شح الأمطار وعدم توفر مدخلات الأنتاج كالبذور وضيق الأراضى الزراعية فى مواطنهم الجديدة فقد كان موسم الخريف بائساً مما نتج عنه وفيات كثيرة بين جموع الرعاة الذين أصبحوا لاجئين يتكففون الأغاثات. لجأ البقارة إلى أكل العروق مرة أخرى.
التدواى بالأعشان أو التداوى بالسموم؟
لم تكن معضلة البقارة الرعاة فى المأكل فقط، فالدواء هو المشكلة المستعصية الأخرى، التى ذهب البقارة للأستعاضة عنها بالعروق البلدية والتداوى بها، فقد خبر الرعاة أنواع من الأعشاب والجذور التى تعالج أغلب إن لم نقل كل أنواع الأمراض، سواء التى تصيب الأنسان أو الحيوان على حد سواء، ففى عام 85م ذلك العام البئيس، فقد حبستنا مياه خور أبوحبل مدة تقارب الستة عشر يوماً، ليس هناك وسيلة إلى مكان للعلاج أو حتى وسيلة لطحن الغلال، فقد حوصرنا من جميع الأتجاهات بالمياه المنهمرة مدراراً، كان الراعى يوسف موسى يرعى أبقارنا فقد أصابه مرض اليرقان، ما يسمى بالبايل، وقد ساءت حالته بصورة تنذر بخطر، فتلفت الوالد بحثاً عن خبير فى العروق والأعشاب، فلم يجد إلا والدتى التى خبرت شيئاً مقدراً من والدها الخبير البلدى، فاشارت إلينا بشجرة المرفعين، تلك الشجرة معروفة للوالد أيضاً فهو يستعملها فى علاج السعر لأى كلب أو حيوان عضه كلب سعران، فحفرنا عروقها من ناحية المشرق – لا أدرى لماذا من ناحية المشرق تحديداً، ثم عطنّا تلك العروق فى الماء حتى الصباح فصارت كالشاى الذى أستوى فى حلته، فخلطه والدى بشيئ من اللبن الحامض، وكما قيل خباز السم يضوغه، فقد أخذت جرعتين حتى نتأكد من طبيعة ما يشربه يوسف، لم أزق طعماً أمر منه فى حياتى، وشرب يوسف كوباً كاملاً، فقد ظللنا نستفرغ كل ما فى معدتينا حتى مرحلة الهلاك، فى اليوم التالى شرب يوسف كوباً أخر ولم أشرب أنا، فقد أقسمت أن أموت مرضاً، إن أصابى مرض، ولا يقتلتى سم تلك الشجرة، أستفرغ يوسف كما بالأمس أو أشد وفى اليوم الثالث فعل كما فى سابقيه، وفى اليوم الرابع لم تطق معدته مزيداً فرض يوسف رفضاً باتاً مع اصرار والدى الذى كان حريصاً على علاجه، فقد قال يوسف بالحرف الواحد " خلونى نموت"، أنهمرت دموعنا ليوسف الذى ظل يردد كلمة أتركونى نموت، لم تجدى كل المحاولات فقد قرر الرجل أن يفقد حياته مقابل شرب علقم تلك الشجرة، فتركناه عسى ما شربه من سم يكفى لتقليل سم المرض وقد كان، فى اليوم الخامس تحسنت حالة يوسف بصورة لا تخطئها عين، فجلس فى العنقريب وطلب منى أن أحلق له شعر رأسه، ففعلت، ثم صبت والدتى سمناً على راسه، وفى اليوم السادس عاد يوسف إلى التعافى، فحمدنا الله على سلامته. تلك الشجرة يستعملها البقارة فى علاج سعر الكلاب وهى مجربة تماماً كالأدوية التى تقدمها المستشفيات، فعليك فقط المفاضلة بين ألم الحقن وألم الأستفراغ، فقد رأيت شقيقى الأكبر يسقى نقيع تلك الشجرة إلى الجراء التى أوسعها كلباً سعراناً عضاً، فقد قرر الجميع إعدامها، بينما قال شقيقى "نجرب فيهم سم شجرة المرفعين، فإن نجحنا نكون ضربت عصفورين بحجر، كلابى حيه، وإن لم ننجح لا إنكسر جر ولا تدفق سمن، فإن أم الجريوات سوف تأتى بغيرهن فى فترة وجيزة"، وضع شقيقى لحاء الشجرة فى الماء حتى الصباح ثم خلطه باللبن الحامض، الروب، ثم أسقاه الجراء، فطرشت كالأنسان حتى تمرقت على التراب، ثم عاود ففعل معها ذلك ثلاثة أيام متواليه، فقد شفيت تماماً وأعمرت.
خبرات الرعاة فى إستعمال العروق، هل هى ترف أم حوجة؟
ومن غرائب معرفة الرعاة بالعروق وإستعمالها ما شهدته عند الفلاته أم بررو، تجد الرجل يحمل بخسة "قرعة" مليئة بالعروق، فإن فتح البخسة ضجت العجول تبحث عن أمهاتها لترضع اللبن وأن أغلقها سكتت العجول وهى وسط أمهاتها ولم ترضع، وتظل تلك البخسة مغلقة طوال اليوم وترعى عجولهم مع أمهاتها، ليس كما نفعل نحن البقارة حيث يرعى الصغار بالعجول بمفردها بعيداً عن قطيع أمهاتها، وحينما يأتى المغيب يجمع الفلاته العجول فى الزريبه ثم تفتح البخسة، فتضج العجول وأمهاتها ويتم حليبهن. وفى أوائل التسعينيات هاجم التمرد إحد قرانا فى جنوب كردفان وقد أباد القرية عن بكرة أبيها ولم يهجم المتمردون على قرية الفلاته المجاوره، لم ندرى أن كانت لديهم بخسة عروق مغلقة حتى تضلل الخوارج من مكان القرية ولكن تلك المقولة أتضحت أكثر حينما غضب الشباب من أهل تلك القرية وقرروا قطع جنائنهم إنتقاماً لما فعلوه فى عدم مقارعة التمرد مع بقية أهل المنطقة، فظل الشباب يذهبون ليلاً لقطع الأشجار ولم يجدوا شجراً، فقد ذكر أحدهم أن المنطقة تصير لهم كالقناطير من التراب تعلو وتنخفض ويتوهون فى متاهات غير معروفه ثم يعودون بخفى حنين حتى أهتدى أحدهم إلى سر البخسة وربما هناك أحدهم لدية بخسة عروق مغلقة وجب البحث عنها وكسرها حتى يتسنى لهم إيجاد الأشجار وقطعها، ظلت تلك الرواية تلاحقنى وأنا أبحث عن فك ألغازها حتى اليوم لم أستطع أصدق فحواها أو أجد من الطرف الأخر ما يكذبها، فظلت معلقة فى برزخ بين الصدق الممجوج بالخرافة والروايات الشعبية الأسطورية. ولكن تظل الحقيقة أن الفلاته والبقارة يعرفون الاشجار والعروق وطرق إستعمالها وإن كان الفلاته أخبر لها من البقارة. وقد يصل الحال بالرعاة البقارة أثناء الحروب والمجاعات أن يأكلون حتى لحاء الأشجار، فشجر الطلح المعروف يستطيع الرعاة أكل لحاءه، ومعروف أن أشجار السافنا ذات لحاء مر كالحنطل كأحد طرق الحماية البيئية من القوراط والحشرات التى تنخر جذوع الاشجار، لكن البقارة يعرفون اللحاء الحلو من المر فى شجر الطلح، فهم يسلخون اللحاء الخارجى حتى يصلون إلى العود، يغلف العود لحاء خفيف أشبه بورق السيلوفين أو قل كالغشاء الخفيف الذى يغلف الكبد، ذلك اللحاء به عصارة سكر مركزه ربما تعوض النقص فى سكريات الجسم. كما أن هناك عروق أرضية، رايزومات أرضية، تُأكل بأكلمها، ومن تلك الرازيومات الفايو، وهذه الرازيومة معروفة للرعاة وهى تكثير فى أماكن القراديد والتواكى فى جنوب كردفان، قردود مودر قرب جبال الغلفان يشتهر بالفايو، فترى صغار البقارة يحملون محافيرهم ويبحثون عن الجذر فى جماعات ويتغنون – الفايو فايويتنا، وينو – حتى إذا وجد طفل صفقاتها التى تنمو فى شكل نبته قصيره تشبه أوراقها نباتات الصحرء ولكن أقل ثخناً منها، يبدأ الطفل فى حفرها فهى توجد على مسافة قريبة من سطح الأرض، وهى عبارة عن جذر ممتلئ بالماء الحلو، أسود اللون من الخارج، أبيض ناصع البياض من الداخل، فينزع الأطفال القشرة ويقطعون الجذر فى شكل مكعبات كالبطاطس ثم يأكلونه، حلو المزاق. كما يستعمل الرعاة بعض الرايزومات كمروقات للماء العكر، فرايزومة الكردالة من أشهر ما يستعملها البقارة لترويق المياه العكرة، منطقة قردود الرجيلة فى شمال شرق كادقلى من المناطق المشهورة بالكردالة فى جنوب كردفان، وهذا الجذر يشبه الفايو، لكنه مر المزاق ويضعون قليلاً منه فى الماء العكر الذى يصفو فى الحال وهو يجعل للماء طعم حلو المزاق وتحس فيه نكهة مميزة تجعل المرء يشرب حتى يتطلع فى الشرب، تستعمل الكردالة كالشب الصناعى تماماً، لكن الرايزومة لها صفات سالبة، من أكلها أو شرب من ماءها بكثرة قد يؤدى به إلى إنتفاخ خفيف فى البطن مصحوباً بأخراج روائح نتنه. يضرب البقارة المثل بالأنسان الذى يخرج رياح نتنه بأنه كالذى أكل الكردالة. ووصل الحال بالبقارة حتى معرفة الأشجار التى تستعمل فى غسيل الملابس، فأشتخراج بذور نبات الهجليج وعملها فى شكل ألواح تستعمل فى غسيل الأوانى والملابس وغيرها. كما يعرف الرعاة أنواع الأشجار التى تستعمل لحاءها كفرش، فنبات الخروب يستخرج لحاءه ويفرش للمرأة النفساء ويفرش على ظهور الثيران أثناء الرحول.
هل يمكن تطوير هذه الخبرات والاستفادة منها؟
معرفة الرعاة بالاعشاب واستعمالها هى مجال خصب يجب دارسته بتأنى حتى يستفيد منه عامة الشعب، ففى أروربا نشأ ما يسمى بعلم Ethno-botany وهو يعنى بدراسة النباتات الطبية وأستعمالاتها الشعبية وتطويرها وقد أدى إلى نتائج باهرة فى الغرب وتم إستعمالها فى معالجة كثير من الأمراض.
هل سألنا أنفسنا، لماذا يأكل البقارة العروق أو يتداوون بالسموم?
لكن السؤال الذى يطرح نفسه لماذا يتداوى الرعاة بهذه السموم الخام؟ لماذا يأكل الرعاة ثمار وجذور تلك الأشجار؟ لماذا يعود الرعاة لأكل أم بيجى والشنقل، تلك الأكلات البدائية المرة المزاق؟ لماذا شرب الماء العكر أو ترويقه بتلك الريزومات المرة؟ ذلك الارتباط العميق بين الأنسان الرعوى والبيئية التى يعيش فيها لدرجة تجذر ذلك الوعى بصورة أصبحت تشبه التراث فى أستغلال البيئة ومواردها، كل ذلك مرده إلى تخلف المنطقة وبدائية الحياة فيها. كيف يمكننا تحويل هذا الموروث الشعبى التراثى إلى معارف علمية وتطويره والاستفادة منه بصورة عملية؟ البقارة عديمى الحيلة تماماً فى معرفة القيمة العلمية أو المعرفية التى يحملونها فى تعاملهم اليومى مع البيئة وخيراتها، فإن قطع الرعاة لفروع الأشجار لألف بهائهم أثبت أنه يساعد فى تجديد نمو الاشجار، وقد يلاحظ المرء ذلك فى نبات النيم حينما تعجّز الشجرة ويقوم الناس بقطع فروعها تبدأ فى الأخضرار من جديد، كما أن حركة التجوال بين أراضى القوز فى فترة الخريف وارضى الطين فى فترة الصيف يؤدى إلى أستجمام النبات من الضغط الرعوى وإتمام فترة الأبذار وبالتالى ديمومة الرعى. فإن تطوير الأنسان الرعوى وتطوير فهمه للطبيعة ومواردها وحسن إستغلالها سوف يساعد فى تنميه بشرياً وأقتصادياً. لكن يفضل الأهم ماذا فعلنا نحن لكى ندرء الكوارث والمجاعة القادمة؟ ماذا فعلنا حتى لا يعود صغارنا إلى أكل تلك السموم والعروق
منقول | |
|