احتشدت مئات الوجوه السمراء حول الحلبة.. وصيحات التشجيع تملأ الجو بالحماسة.. بينما يتراوغ المتصارعان وكل منهما يرمق الآخر بنظرات متربصة، وأشعة شمس الصيف تنعكس على عضلاتهما البارزة فيؤجج بريقها حماس الجمهور أكثر فأكثر.. وفي لمحة خاطفة يطوح المصارع الشاب الذي لازال في المرتبة المتوسطة يده في الهواء بحركة مروحية مسقطا غريمه المصنف "فارس" أرضا..
بعدها، يتسابق غالبية جمهور حلبة الحاج يوسف بولاية "الخرطوم بحري" والذي تراوح بين 800 و ألف مشجع للالتفاف حول المصارع النوبي "صلاح إدريس" وهو يتبختر وسط الحلبة مزهوا بالنصر وعلى ذراعه ورقة فئة 5 جنيهات سودانية ألصقتها "حواء" بائعة التسالي فرحا بـ"الشبل الذي هزم الأسد"، فيما يسارع أصدقاء غريمه بدر الدين الشهير بـ"المروحة" لحمله على الأعناق مواساة له، وتأكيدا على احتفاظه بمكانته رغم الهزيمة.
ولا يتوقف المشهد السابق لإحدى أبرز مباريات المصارعة النوبية - التي تحولت من رياضة خاصة بالإثنية النوبية ذات الجذور الإفريقية إلى رياضة عامة يقبل عليها السودانيون من مختلف القبائل والأعراق- عند حدود المنافسة الرياضية وإمتاع الجمهور، بل يتخطاها ليصبح عنوانا للهوية النوبية بالسودان.
ويؤكد المصارع النوبي حسن كوكو هذا المعنى قائلا: "هي تراثنا ورمز البطولة والرجولة عندنا، وهي مما بقي لنا في الخرطوم".
ويتفق معه محمود خير السيد رئيس نادي "صقر الباز" للمصارعة السودانية، موضحا: "المصارعة هي تراث لأهل ومواطني جبال النوبة، وتعتبر نوعا من الفروسية لذلك يتم تدريب الفارس المصارع بشكل خاص".
رياضة الهوية
ويرى الباحث السوداني الصادق محمد سليمان أن "المصارعة النوبية هي أثر باق لحالة الحرب والقتال التي كابدتها أعراق المنطقة في زمان غابر، وعندما انتقل النوبيون من موطنهم الأصلي بجنوب كردفان إلى مدن الشمال السوداني الأوسط، استمروا في ممارسة المصارعة كرياضة مميزة لهم، في عصر يومي الجمعة والأربعاء من كل أسبوع، وتمثل المصارعة الرمز الذي يشدهم إلى الموطن القديم والقرية".
وفي عهد محمود حسيب مدير مديرية كادقلي النوبية عام 1977، دخلت تلك الرياضة المحافل الدولية والإقليمية، وقد حصد مؤخرا بعض أبطالها الميداليات الذهبية في دورة سول للألعاب الشعبية.
وتجمع الأصول العرقية بين نوبة شمال السودان وصعيد مصر ونوبة جنوب كردفان- التي تقع جنوب أواسط السودان- رغم التباين المعاصر في اللون والسمات الظاهرية، ويقول علماء لغويات إن الدراسات أثبتت أن لغتي النوبة هنا وهناك تعودان لجذر لغوي واحد.
تيبنيه.. واجي.. سُكا كداد
تيبنيه.. واجي.. سكا كداد، هي أسماء المصارعة النوبية عند نوبة كادوقلي والمنطقة الشرقية من جبال النوبة وشمال السودان على التوالي، والتي تدار رحاها غالبا في حلبتها الشهيرة بمنطقة الحاج يوسف، أو في الحلبات الفرعية في أم درمان.
ولا تتجاوز جولة المصارعة 5 دقائق، يجب على المصارع خلالها إلقاء خصمه على الأرض، وإلا احتسب الحكم الجولة تعادلية، ولا يعطي طاقم التحكيم درجات على المهارات التي يظهرها المصارعون في حالة التعادل، لأنها في الغالب لا تحظى إلا بمناوشات يغلب عليها الحذر والكر والفر.
وعن تقاليدها في موطنها الأصلي، جبال النوبة يقول خير السيد: "تتم المبارزة بشكل تقليدي عشوائي بين أبناء المنطقة الواحدة قبل موسم الحصاد كنوع من التمارين والإعداد، أمّا في موسم الحصاد فتتم المبارزة بين فرسان منطقة مع فرسان منطقة أخرى"، ويكون ذلك خلال شهري أكتوبر ونوفمبر من كل عام.
ويضيف: "وللمصارعة 3 تصنيفات هي شبل ومتوسط وفارس، وتعد لدى النوبة لازمة للذكر لينتقل من مرحلة اليفاعة والطفولة للقوة والرجولة، ويتقن النوبي المصارعة على يد خبير يسمى بـ(السّبَّاري)، كما يتولى تنظيم مباريات المصارع".
ويستطرد: "ولكن قبيلة الحوازمة العربية التي تُعلي من شأن الشعر أضافت للسباري مهمة جديدة في المصارعة، وهي إنشاد الشعر أثناء المباراة".
ويكة لايوقه.. تايتنك.. النهب المسلح!
ويشتهر لاعبو المصارعة النوبية بألقابهم الغريبة، التي يطلقونها على أنفسهم أو يطلقها عليهم الجمهور، ويضم فريقي "البركان" و"صقر الجديان" الشهيران عددا من هؤلاء مثل: مكي كاتيوشا، وبدر الدين مروحة، والطلقة النارية، والسخلة (صغير الماعز)، والتيكو (موديل سيارة كورية تتميز بصغر الحجم وقصر الارتفاع).
ومن أغرب الألقاب كذلك الفارس الشهير بـ"النهب المسلح" نظرا لقوته الضاربة والخاطفة التي تشبه ميليشيات النهب المسلح، وهناك "السياحي" الفارس الذي يتميز بأناقة الأماكن السياحية، وبشير شلاقة (كلمة سودانية تعني الدخول في الأمر دون تحسب)، و"تايتنك" الذي يشبهونه بالسفينة الشهيرة، و"الدفاع الشعبي" نسبة إلى ميليشيات الحكومة التي كانت تقاتل في الجنوب، و"الحبة السوداء" الذي هو دواء لكل داء بين المصارعين.
ويعتبر اسم "ويكة لايوقه"، والذي يشير لنوع من الطعام السوداني المحلي الذي يتميز بشدة اللزوجة من الأسماء الأكثر تميزا بين فرسان حلبة الحاج يوسف، ويعتبر الفارس "حقار أب جاكوما" أشهر مصارعي جبال النوبة الآن.
"أبو تريكة" الحاج يوسف!
وللمصارعة طقوس وتقاليد وأدبيات، ينبغي على الفارس الالتزام بها وهو ينازل خصمه في الحلبة، فالنصر أمنية عزيزة ولكن ترتفع أسهمه كلما كانت الأخلاق تزينه، بحسب مسئول الإعلام بالاتحاد العام للمصارعة السودانية، الذي يقول "اللاعب الذي يخرق قوانين اللعبة تشهر في وجهه البطاقة الصفراء ثم الحمراء".
ويصف جمهور حلبة الحاج يوسف الفارس "صالح الفكي التوم" بأنه "أبوتريكة" الحلبة، لـ"أخلاقه الرفيعة وحضوره الجماهيري القوي، وتقبل النقد والهزيمة بصدر رحب واحترامه الخصم، وهو ما يجعله يحظى بحب الجمهور من مختلف الاتجاهات".
ويعد صالح الشهير بـ(ويوي) الذي انخرط في هذا المضمار منذ عام 1967 أشهر المشجعين للمصارع النوبية، ويخبر عنه مسئول الإعلام بالاتحاد قائلا: "صالح يتبرع في الغالب بوجبات الفرسان الغذائية بالإضافة إلى تخصيصه (تمنة) لبن -قدر يتسع لثمانية أرطال من اللبن- لأحد الفرسان، عقب كل مباراة".
وأسس الاتحاد العام للمصارعة السودانية منذ عام 1967م، وهناك أكثر من 11 فريقا بالاتحاد يتكون كل منها من 30 لاعبا كحد أقصى، ولكن اللعبة لم تحظ بانتشار وجماهيرية إلا في السنوات العشر الأخيرة، ويرأس الاتحاد حاليا الصادق البدوي محمد صالح الرائد بالجيش السوداني.