: جبال النوبا (بالسودان) العادات والثقافات
جبال النوبا (بالسودان) العادات والثقافات
الكاتب : د. طارق أحمد عثمان
د. طارق أحمد عثمان
جامعة إفريقيا العالمية
يصف البروفسر الألماني ( رودلف هو سمان ) جبال النوبا بأنها تمثل قلة قليلة من المناطق المشابهة في إفريقيا والعالم أجمع من حيث اكتظاظ عدد كبير من المجموعات العرقية وعادات وتقاليد ولغات مختلفة في مساحة ضيقة إلي حد ما ، وهذه التعددية هي التي استرعت إليها انتباه الانثروبولوجيين واللغويين الذين اكتشفوا حقل جبال النوبا الحضاري المتميز منذ منتصف القرن التاسع عشر وقدموه للعالم( [1])
الشخصية النوباوية
يتميز النوباوي علي نحو مايذكر محمد هارون كافي بأنه: ( قوي عنيف ، يمتاز ببناء جسماني قويم أضف إلي ذلك اصراره القوي علي التمسك بمعتقداته وعدم تردده مما أهله أن يكون صاحب صفات حربية عالية ، وقد ظهر هذا جليا في الحروبات القبلية والوقائع التي جرت بين النوبا والمستعمر في الفترة مابين 1906 – 1945 وهي اربع عشر معركة ، وبحسب مايقول الناشر في مقدمته لكتاب ليمي ريفنشتال Riefenstahl, Lemi : إذا بحثنا في أرجاء العالم القديم أو الحديث قد لانجد اناسا أقوياء أشداء جسمانيا مثل ( نوبا المساكين ) ، وهؤلاء بطن من بطون النوبا في الجبال الجنوبية ، ويري محمد هارون كافي أنه لو قدر لصاحب هذا الكلام أن يري أجساد ( نوبا أنقولو) أو ( نماما) مثلا وهم يقطنون علي مقربة من هؤلاء ، أو أن يري أجساد ( نوبا كاونجارو) أذن لعجز عن التعبير([2]).
وتختلف الوان البشرة لدي النوبا ، من اللون الاسود الكاكاوي الي البني الفاتح ، يحبون النظافة ويتضح هذا في سكناهم شديدة النظافة ، والمرأة لديهم عندما تقوم بإعداد الطعام فإنها تعتني بنظافة الأواني جيداً ، كما أنها لاتقدم أو تعمل طعاماً أو مشروباً في فترة الحيض ، حيث يترسب لديها اعتقاد أن النجاسة التي تصاحبها في هذه الفترة ، ربما تؤذي الآخرين وتلحق الضرر بهم إذا هي قدمت شيئا لهم([3]) ويقوم البناء الاجتماعي لدي النوبا علي أساس الأم كما أن القرابة أو نظام القرابة يشكل بعداً هاما في الحياة الاجتماعية لديهم ، ونظام الوراثة. أمومي ، فالولد يرث خاله ، وهو نظام يختلف عن النظام الموجود لدي القبائل العربية حيث الابناء يرثون الآباء( [4]) ونجد عند اللفوفة ، أن كل أبناء الخؤولة والعمومة أشقاء لايجوز أن يتم الزواج بينهم ، وهناك علاقة اجتماعية وثيقة بين شقيق الأم وابن الأخت ([5] )
والفكرة الأساسية وراء وحدة من ينتمون الي الخط الأمومي هي أنهم جاءوا من جميعا من ( بطن واحد ) ، ويستخدم هذا التعبير لمن يولدون لنفس الأم أو لاختين ، ومع ذلك فهو يستخدم للتعبير عن توحد السلالة بشكل اجمالي ، وفي حالة اللفوفة يعطينا ( سيلجمان ) Seligman مثالا عن كيفية ذلك ، فيقول : عادة مايقول الرجل
هذا أمبي ( أي أخي ) ، وعندما يسأل عما إذا كان هو و( أخوه ) قد ولدا من أم واحدة أو أب واحد . فقد تأتي اجابته : " لا هذا ، ولا ذاك " وإنما أمه ووالد أخيه هما ( أمبي ) , ولدي اللفوفة فإن نظام القرابة الأمومي قد اضطلع بتنظيم العلاقات الهامة وتوجيه السلوك ، ويتمتع بأهمية خاصة في ذلك العلاقة بين شقيق الام وابن الاخت ، بل يعطي لكليهما لقب اصطلاحي واحد في هذا النظام القرابي ، وهو ( امبينق ) وتتجلي العلاقة في الحياة اليومية في كون الصبية الصغار يقضون أوقاتا طويلة مع أشقاء أمهاتهم ، ويمكثون في بيت الخال بدءا من بلوغ السابعة أو الثامنة من عمرهم ، وكذلك إذا ظفر الشاب بصيد فيجب أن يحصل الخال علي ربع لحم الصيد ، وهو نصيب أكبر من نصيب والد الصبي ، وإذا مرض أي من الولد أو خاله يجب أن يأخذ أحدهما المريض إلي المعالج وأن يدفع مقابل العلاج ، وعند وفاة الخال يتم تقسيم أسلحته بين أبناء شقيقاته ، ويتوجب علي هؤلاء أن يقدموا رؤوس الحيوانات التي ستذبح في الجنازة ، ويدفن الرجال والنساء مع أقربائهم من ناحية الأم في ( مقابر أمومية ) .( [6])
ولدي الفندا ( *) تعتبر الأسرة منبوذة ويجب طردها من الاطار القبلي إذا قامت علي الزواج بين أبناء العمومة أو الخؤولة وذلك لما لهذه القرابة من قدسية واحترام ، وفي اعتقادهم أن بنت العم وبنت الخال هي أخت الرجل ولها مكانة الأخت الشقيقة ([7] )
الختان والزواج عند النوبا
أ- الختان
عند الغلفان تبدأ الاحتفالات بعد تحديد يوم معين لاجراء هذه العملية ، ويقوم أقرباء الشباب المراد ختانهم بتجهيز كميات كبيرة من المريسة (*) ، وبعد اكتمال الاستعدادات يتحرك الشباب في موكب إلي مكان الختان وهم يلبسون أدوات الزينة مثل عقود الخرز والأسورة في أياديهم وأذرعهم ، وبعد اسبوعين من اجراء عملية الختان يجمع كل الشبان الذين أجريت لهم العملية في مورد مياه القرية حيث تجري مبارزة بين الشباب المختونين تنتهي بالصلح والغاء كل الخصومات السابقة ، ويصبح كل شابين تبارزا ضد بعضهما بعضا كأخوين وتسري بينهما الموانع التي تحفظ هذه الأخوة بما في ذلك منع زواج أحدهما لبنت الآخر ، وبهذا يصبح كل شاب مر بهذه الممارسات رجلا مؤهلا ويستطيع الزواج ( [8]). يمثل الختان لدي النوبا ، مرحلة انتقال ، أوطقس عبور ضمن طقوس العبور الأخري ، وللختان قيمة نفسية وثقافية واجتماعية عميقة ، فلدي الفندا مثلا الفتاة لايمكنها أن تقبل مطلقا بشاب غير مختون زوجا لها ([9] )
ويختن النوبا في عمر 10 سنوات إلي ماهو أكثر من ذلك وحتي قبل الزواج بقليل ، وكانت تجري عملية الختان بالفأس والسكين وتطبب بزيت السمسم واللالوب ([10])
وتتم عملية الختان بصورة جماعية ولاعداد كبيرة من الشباب ممن هم في أعمار متقاربة أو في طريقهم للزواج ، وعند الفندا تجري مراسم الختان عقب احتفالات كبيرة يتم الإعداد لها منذ مدة طويلة ، ولايقام هذا الاحتفال سنويا وانما بعد مرور عامين من الاحتفال السابق وفي الغالب يتم توجيه الشخص المراد ختانه من قبل والده بضرورة أن يكون جاهزاً لمرحلة الختان ، التي تمثل لدي الوالدين مرحلة النضوج والتحول عن الطفولة الي الرجولة والمقدرة علي الزواج أيضاً ، ولهذا يعلن الأب لدي عشيرته أن أبنه سيكون من بين المختونين في سنة الختان ([11])وهناك العديد من العادات التي تتبع عند الختان في اللباس والنظافة والمعاملات الاجتماعية ، وبعض هذه الأعراف ، قد لايكون له تفسير علي نحو تحريم مصافحة المختونين بعضهم بعضا عند الفندا ، الذين يمنعونهم كذلك من السير خارج المعسكر الذي يقام لهم من أجل هذه المناسبة ، فرادي وإنما يجب عليهم السير في جماعات علي سفوح الجبال ، لاعتقادهم أن في سيرهم الجماعي هذا تصحبهم الأرواح الخيرة ، وإذا ماسار المختون وحيدا فإن الروح الشريرة ستجد طريقها إليه.([12])
ولكل معسكر من معسكرات المختونين الذين يبقون معزولين عن الناس قائد من بين المختونين يتم اختياره من قبل الكجور المشرف علي أمر الختان ، ويجب أن تتوفر في هذا القائد صفات القيادة العديدة ، وأن يكون حكيما وأن يكون من أبناء الاسر العريقة في القبيلة ، ويتم تفويضه من الكجور لقيادة المختونين ومراقبتهم في المعسكر في غياب الكجور ، وهذا القائد يقوم بتحديد مسارات هؤلاء وأنشطتهم ومن يجرؤ علي مخالفته يعد مخالفا لأوامر الكجور .([13] )
ويحرم علي المختونين من ابناء الفندا داخل معسكراتهم طبخ الطعام الذي يأتي اليهم من قبل أسرهم ، وفي أواني خاصة بهم وحدهم ، كما يحرم عليهم أكل اللحوم المذبوحة أي كانت نوعها طالما لم يصطدها المختونون انفسهم ولاغبار علي مايصطادونه ، ويشوي علي النار دون طباختها ، ويكون الأكل جماعيا وتحت اشراف الكجور الذي يبدأ بتذوق الطعام في كل أوقاته ، وتعرف هذه العملية عند الفندا بـ (تيتتانق ) Teteang ([14] )
وبالنسبة لابناء ( الكاركو) هناك عمليتان هامتان تجريان لهم في نهاية طقوس الختان الاولي ، هي ثقب الأذنين والتي يقوم بها كجور خشم البيت الذي يتبع له الشاب المختون ، حيث يقوم الكجور بأحداث سبعة ثقوب في الأذن اليسري وثمانية في اليمني ، وذلك بعد اجراء عملية الختان ، وبعد أن تندمل الجراح يوضع في كل ثقب قرط من النحاس أو الحديد ، وبعد سبعة أيام تنزع كل هذه الأقراط عدا واحدا يبقي ملازما لهذا الشاب مدي حياته ( [15])
وبالنسبة للإناث ، فإن بعضهم يري أنهم لايعرفون ختان الإناث ، إلا أن نادل Nadel يري أن عملية خفاض البنات لم تعرف عند الأجانق إلا في منتصف الاربعينات من القرن الماضي ( [16]) ويخفض الفندا بناتهم ولكن عند الزواج فقط فعندما يتقدم شاب لطلب فتاة للزواج ، حينئذ تجري لها عملية الخفاض وبصورة فردية في منزل زوجها في المستقبل وليس في بيت أبيها ، وتخلو هذه العملية من الاحتفالات المعهودة في ختان الذكور ، إلا أن البنت تخرج من منزلها الجديد في موكب من صديقاتها وقريباتها وهن يحملن شراب المريسة وبعض الطعام ، وتخفض البنت خفاضا فرعونيا بشفرة حادة ( موس ) ، ويعتبر هذا اليوم بمثابة إعلان لزواجها ، وتعاد في نفس اليوم إلي منزل والدها حيث لايحق لها المبيت في بيت الزوجية ([17] )
ومن الجائز أن ختان الإناث أمر وافد علي النوبا وليس أصيلا لديهم ، كما أن بعض قبائل النوبا لاتعرف ختان الذكور أصلا([18])
ب- الزواج
وفي مسألة الزواج هناك بعض العادات الجاهلية التي تبرز في علاقات الزواج لدي مجتمع النوبا التقليدي ، علي نحو عادة اغواء المرأة واغرائها بالهرب من بيت الزوجية مع رجل آخر، وقد يهرب بها إلي داخل الجبال إو الي المدن الكبري ، حيث يعيش معها وقد خلفت من ورائها زوجا وربما أطفالا كذلك ، أما زوجها القديم فربما قام بالبحث عنها ليردها اليه ، فإذا وجدها قد أنجبت أطفالا من رجلها الجديد ، ووافقت علي الرجوع معه ، دخل هؤلاء الأبناء في عداد أبنائه ، وتعتقد عفاف تاور كافي أن عادات هذا المجتمع لاتقل عن المجتمع الجاهلي في شيء ([19])
الا أن الصادق عيسي عطرون ، يظن أن عادات الزواج لدي مجتمعات النوبا قد تغيرت كثيرا ( [20])
وفي أطار التحول نحو الحياة الأكثر ارتباطا بالمجتمع عبر الزواج ، نجد عند اللفوفة ، فئتان عمريتان هما
كاميناي ) و ( تيمبينغ ) وتشير الفئة الأولي إلي الرجل الذي يستطيع الزواج، أما الثانية فتشير إلي كبار السن ، وهذا في الواقع نظام مبسط ، لايداخله التعقيد وينظر إليه كمؤشر شديد الأهمية لتطور وضع أفراد الجماعة ، فقد كانت مرحلة الانتقال من الصبا إلي ( الكاميناي ) من المناسبات التي تحاط باحتفاء خاص ، فعند الوصول إلي هذه المرحلة العمرية ، كان يتوجب علي الشبان البالغين أن يقضوا فصل الأمطار في رعي الماشية والعيش في حظائرها ، وبعد انتهاء فترة العزل هذه يقام حفل راقص يشترك فيه هؤلاء الأولاد ، ولابد أن يمر الولد بفترات عزل ثلاث – أي ثلاثة مواسم ممطرة – قبل أن يسمح له بالاشتراك في رقصة ( كاميلاي ) وهو تعبير مشتق من كامي والتي تعني عند اللفوفة : الولد الذي انجب طفله الأول ، أي أنه أصبح رجلا ، وبعد هذه الرقصة ، التي بها تنتهي فترة العزل يقوم الاولاد بتزيين أنفسهم ، ويعودون إلي قريتهم حيث يقوم خال كل منهم بضربه بالعصا ، وفي اليوم التالي يقوم كل منهما بجلد الآخر ، وفيما بعد تشرف زوجات المستقبل علي علاجهم ([21] )
وعلي النقيض من الاحتفاء بالانتقال من الطفولة إلي مرحلة البلوغ عند الذكر والأنثي نجد الزواج عند اللفوفة لايعتبر مناسبة احتفالية رئـيـسـة ، إذ أن الشباب يتدبرون أمور الحب الخاصة بينهم ، وعندما يقرر ولد وبنت الزواج فإنهما يخبران أبائهما ليحصلا علي موافقتهما ، ويتوجب علي البنت الاستمرار في الحياة مع أمها حتي بعد ولادة طفلها الأول ، ويجب علي الزوج في هذه الفترة أن يعمل لحساب آل زوجته ، وتعتبر خدمة العروس ، من الأمور الشائعة في المجتمعات الأمومية وبعد ولادة الطفل الأول يتم بناء منزل الزوجية لدي أهل الزوج ، ويلتزم أهل الزوجة بتوفير المريسة اللازمة لذلك ( [22])
وتتدخل الحياة الاقتصادية والروحية والاجتماعية لدي النوبا بشكل معقد ، خاصة في عملية الزواج التي يصحبها في المناطق من الجبال تقليد يقوم به الكجور يرمز الي قيمة اقتصادية وروحية تتداخل هاتان القيمتان لتعطيها للزواج بعدا عقديا واقتصاديا ، ففي هذه المناطق ، تكتمل اجراءات الزواج ( بتسيير) الزوجين في وسط مزرعة الزوج حيث يضع الزوجان أيديهما فوق بعض علي الأرض ويصحب ذلك دعاء من الكجور ، ليبارك الله لهما ولانجالهما هذه الأرض التي سيقومون بزراعتها ونجد ذلك بشكل واضح في جبال ( تيرا)([23])
وعند الأجانق لايفضل الزواج من نسب الأب ،ويمكن ذلك من نسب الأم ، كما يحرم زواج الأرامل ، فلايتزوج أرمل بأرملة ، ويبدا الزواج لديهم بالخطبة التي تتم بعد موافقة والد البنت ، ولايكتمل الزواج إلا بعد مضي موسم زراعي كامل يعمل فيه الذي ينوي الزواج في مزرعة والد من قام بخطبتها – كما أشرنا أنفا – منذ بداية الموسم الزراعي وحتي موعد الحصاد ، وبعد عيد الحصاد يقيم الرجل لوالد خطيبته كوخا ويقدم مهرا يتراوح مابين أربع بقرات إلي ثمان بقرات بالإضافة إلي السمسم والذرة ، وليس بالضرورة أن تقدم كل الأبقار دفعة واحدة ، إذ يمكن أن يقدم النصف ويؤجل النصف الأخر الي حين رحيل الزوجة إلي منزل الزوجية([24]) وقد يتنوع المهر فلايكتفي فيه بالأبقار إذ يمكن أن تقدم الأغنام الي جانب الابقار ، وقد تناقصت أعداد الماشية المقدمة في المهر ، وكانت تصل في السابق إلي اثنين وثلاثين رأسا ( [25])
وعندما تنجب الزوجة ولدا تبقي داخل بيتها لمدة خمسة أسابيع لاتخرج فيها ، إما إذا ولدت أنثي فإنها تبقي لفترة أربعة اسابيع ، وعندما يتم اختيار اسم المولود يأتي الزوج بشرائح من جلد ( الورل ) ويربطها علي ساعد الوليد ، ويعتبر الزواج عند الأجانق رباط قوي بين الزوج والزوجة ، لا فكاك منه إلا في حالات : المرض العضال وفقدان العقل المهدد لأحد الطرفين ، والتهديد في الحياة ([26] )
ولدي بعض النوبا الوان من الزواج الذي يتم بصورة قسرية عن طريق خطف البنت – كما أوضحنا ذلك في مقدمة هذا المبحث – علي النحو الذي نجده عند قبيلة تلشي* ([27] )
والنوبا يكثرون من الزوجات ، وقد يتزوج الواحد منهم 16 زوجة والجيل الآخر من النوبا الذين دخلوا الإسلام تزوجوا إلي ثماني زوجات ، وبعد أن دخلوا هؤلاء في الإسلام قاموا بتطليق العدد الزائد عن أربع زوجات وفقا لمقتضي الشريعة الإسلامية ، وليس لدي نساء النوبا أدني بغض لتعدد الزوجات بالنسبة للرجل ، وقد تخطب المرأة لزوجها أحدي صاحبتها ، وكثرة الزوجات عامل ايجابي لدي المرأة النوباوية إذ أنه يخفف عنها من أوزار العمل في الزراعة والبيت وخدمة الزوج ، وتتعايش الزوجات فيما بينهن بشكل طبيعي وجيد وفقا لاعراف المجتمع النوباوي([28])
الموت
يحتفي النوبة بالموت ولديهم مراسيم خاصة تجتمع في احتفال خاص يسمونه (بانقو)، والاحتفاء بالموت يحظي بأهمية خاصة تعلو تلك التي يجدها حفل الصراع ، ويبلغ التعبير عن الحياة الروحية لدي النوبا أعلي مدي له عند الموتي ويأتي التعبير عن هذه القيم في هذا الحفل ، الذي يشير إلي أن اهتمام النوبا بالحياة الروحية يتجاوز اهتمامهم بالحياة المادية وبالنظر إلي احتفال النوبا بالزواج نلاحظ بوضوح هذه العناية بالمعاني الروحية ، فحفل الزواج يتم دون احتفال أو وليمة ولاتتضمن المراسيم علي أشخاص غير أسرة الزوج وأسرة الزوجة , والرجل النوباوي لايهتم كثيرا بأن يكون جاذبا للمرأة ، ولكن اهتمامه ينصب فقط علي أن يكون مصارعا ممتازا(29 )
واحتفالات الرقص لدي النوبة ليست مناسبات لاظهار الغرائز أو الجسد ، ولكنها احتفالات ذات صلة بقوي الحياة والمعاني الروحية ، ووسط النوبة ليس هناك اهتمام واضح بالحب الغرائزي ولكن من ناحية ثانية يقوم الحب بدور رئيسي ( 30) وعندما تحدث الوفاة لفرد فإن هذا يكون له علاقة بالمجتمع بصفة عامة ، والدليل علي ذلك أنه في خلال يوم أو يومين وعلي مدي خمسين ميل يكون أي شخص في هذه المسافة قد علم بالوفاة ، وبالمقاييس الغربية ، فإن الحضور لهذه المناسبة سيكون كبيرا بدرجة لايمكن تصديقها .
ويكون العزاء بطريقة مؤثرة وتحمل معاني القرب ، وبعد عدد من السنوات من وفاة الميت – وليس هذا بسخرية – يكون الاحتفال بالعزاء هو أهم حدث مرّ بحياة هذا الميت ، فالموت ليس أمرا شخصيا ، ومرتبة الاحتفال تعتمد علي أهمية الميت ، ففي حالة الأطفال ، فإن الأسرة وحدها هي التي تبكيهم ، ويقوم الآب أو الأم بذبح رأس من الغنم أو البقر في بعض الحالات الاستثنائية (31 )
وبعض النوبة يغسلون موتاهم بالماء الدافيء في شكل حمام بعد حلاقه شعره ، ويقوم آخرون بغسله بماء بارد وقد يدفن أحيانا بلا حمام حيث تحفر حفر طويلة كالبئر ، وقد تكون لبعض الأسر ذات الشأن مقبرة خاصة بها يتم دفن أفرادها فيها ، وتسد فوهتها بحجر كبير ثم يهال عليها التراب .(32 )
أما المراسيم الخاصة بالدفن فهي تختلف من جيل لآخر ، ومن قبيلة لأخري وفي القبيلة الواحدة حسب شأن المتوفي وتتقارب العادات بين القبائل في المنطقة الجنوبية علي وجه الخصوص وتتضمن مراسم الدفن جانبا من العادات علي نحو وضع الميت علي (عنقريب ) بعد تجهيزه للدفن ثم يوضع هذا (العنقريب) في فناء الدار ، ويؤتي بمجموعة من أبقاره فيخرج أقرب أقربائه ويطعن أول بقرة تقابله لينهال الباقون علي بقية الأبقار طعنا إلي أن تبادر جميعها ثم يحمل الميت إلي مثواه الأخير ، وتستمر ليالي المآتم ، وتتفاوت بحسـب عرف القبيلة ، وقد تستمر لمدة أربعين يوما ، وبعد عام يقام تأبين للمتوفي ، في صورة احتفال ، تضع فيه المرايس ، وتذبح الذبائح ، وتتخلل هذا الاحتفال الأغاني الحزينة ، ويكون الحزن أكثر عمقا عندما يتوفي شاب لم يتزوج بعد (33 ) والأجانق يؤمنون بالحياة بعد الموت لذلك يربطون الأعياد بالموت، ويعتقدون بحضور أرواح الموتي في أيام عيد الحصاد لذلك يقيمون طقوس خاصة تهدئة لخواطر تلك الأرواح ( 34)
وعند الفندا عندما يتوفي شاب تجري عليه بعض المراسم قبل الدفن حيث يتم تجريده من ملابسه ، وإذا كان متزوجا تجلس أمرأته إلي جواره وكذلك أبناؤه ، ويأتي كهل من القبيلة ليستخرج له ( القرط) الذي ألبسه في الختان ، وإذا كانت المتوفية أمرأة يجلس زوجها إلي جانبها ومعه أبناؤه ويكون هذا من أجل النظرة الأخيرة ، وإذا حدثت الوفاة عند الفجر لايتم الدفن إلا قبيل الغروب ، وبعد دفن الميت يحلق الجميع شعر رؤوسهم رجالا ونساء ، ويحرم عليهم أكل السمسم واللحوم خلال أسبوع من الوفاة ، ولاينامون إلا علي الأرض ، وبعد مرور أربعين يوما يقام للمتوفي ( سبر) ( أتوتي) ، ويقصد من هذا السبر حماية أهل الميت من بعثه مرة أخري ، وخروجه من القبر في صورة روح شريرة ، وفيه يجتمع جميع أسرة المتوفي بحضور أكبرهم ويمكن أن يكون الكجور الخاص بالعشيرة وبعد أن يلقي عليهم موعظة ، يسكب الماء علي الأرض ، ومن ثم يأكل ماتم ذبحه لهذا المتوفي ، ويتخلل هذا السبر رقص وغناء ، وبعد مرور خمسة سنوات من وفاته يقام له ذات الأحتفال وذلك بحسب أعتقادهم أن هناك بقايا من روحه مازالت تحلق فوقهم ، وهو آخر سبر واحتفال يقام للميت من الشباب ، أما وفاة كبار السن ، يتم أعلان موته بواسطة الضرب علي الطبول التي تعرف بـ ( درو) (Daro ) ، والحزن عليه لايكون كالحزن علي الشباب ، بل لربما يفرحون لوفاته ، لأنه سيكون عند البعث ، وتكثر في موته الأحتفالات والأسبار للحماية(35 ).
والدفن عند الفنداويين يتم في المقابر ( تلي ) (Tely )والقبر يحفر علي شكل دائري علي سطح الأرض في مساحة متر ونصف المتر ، وداخل هذه الدائرة يتم عمل حفرة أخري داخل الأرض في تجويف منحدر إلي الداخل ، وعندما يكتمل عمل المقبرة تصبح أقرب إلي حجم الغرفة الصغيرة التي تسع خمسة أو ستة أفراد وربما أكثر ، ويعمل مجري مستطيل بحجم المتوفي الذي يوضع ورأسه نحو مشرق الشمس ورجلاه نحو غروب الشمس ، ويتم اغلاق الغرفة بواسطة أنية فخار( أن) ، وتغطي بأحجار ، تختلف عند الرجال عنها لدي النساء ليتم التفريق بين مقابر النساء والرجال ، وإذا توفيت إمرأة كبيرة السن فعلي جميع أفراد الاسرة بالإضافة إلي أقربائها أن يكونوا حضورا بحيث لايتم الدفن إلا عند اكتمال حضور الجميع ويحضر الكفن الرجال الذين تزوجوا بناتها ، ويقع عليهم أيضا عبء أحضار الطعام والخمور للمعزين, وعليهم كذلك تجهيز المقبرة بحيث يمكثون منذ ساعة الوفاة إلي حين الفراغ من الدفن ، وقد يستغرق ذلك منهم زمنا طويلا ، وعند الدفن يقوم زوج البنت الكبري ، بالدخول إلي المقبرة أولا وتدفن المرأة بزيها التقليدي ( كلي ) والرجل بلباسه ( تاكو) Tako المصنوع من جلد النمر ، فتدفن معه ما اعتاد أن يستخدمه في حياته ، لاعتقادهم أن الميت يبعث بهذه الأزياء لذا يتوجب عليه أن يرتدي أفضل مالديه ، وبعد مرور عشرة سنوات من دفن ميت يجوز أن يوضع ميت آخر محله بعد ازاحة الرفاة القديمة ووضع الجثة الحديثة مكانها ، وهكذا تظل هذه المقبرة تستقبل بعد مضـي كل عشرة سنوات ميتا جديدا إلي أن تمتلي(36 )- كما ذكرنا – فقد اعتقد النوبا بفكرة البعث بعد الموت ووصفوا ذلك في روايات يحكونها عن دار الآخرة التي سيذهبون إليها بعد الموت ، أوجزها سافار كما يلي : ( للأجانق دارين دار الدنيا ويسمونها تاواي ( Tawai ) ودار الآخرة ويسمونها تاوالاTawala وهو مكان غير محدد ولكنه تحت ، وبعد الموت يبعث الناس في شبابهم ولكل جماعة مكانها الخاص ونظامها ولاتختلط بالجماعات الأخري ، وعند وصولهم إلي هناك يجتمعون بكل أفراد أسرهم وأقربائهم ويعيشون معا ومعهم الجد موجود في شكل ثعبان في أحد الكهوف وهناك تتم زيارته في أوقات معينة وتقدم له القرابين .والغلفان هم فرع من الأجانق يعتقدون بوجود هذا الجد ويرون أنه كــان رجلا مسنا يدعي ( كورين ) تحول إلي ثعبان ويقيم الآن في جبل بمنطقة الأجانق يسمي ( Nina ) ويقولون إنه يمكن رؤيته حتي يومنا هذا شريطة أن تقام له طقوس دينية معينة ، مثل وضع (المريسة) واللبن أمام كهفه ومسح ظهره بالزيت والسمن ( 37) ولدي الفندا احتفال يسمي كرونرته Coronorta ويعني سقاية أهل الجبل ، ويشير هذا الأمر إلي الطقس الذي يقدم إلي (فان) جد الفنداويين الذي توفي وتحول إلي ثعبان ومضي زاحفا إلي جبل( توتقل ) المقدس بسبب وجود هذا الثعبان فيه ، وأضحت القبيلة تقدم له القرابين ونتيجة لهذا الفهم صارت كل الثعابين الموجودة في الجبل ، أناسا يجب أطعامهم وسقايتهم ، وهذه الأرواح بحسب معتقدهم يجب أن تأكل وتشرب أولا ثم يسمح للأحياء من بعدهم بتذوق الطعام والشراب ، وهذا الطقس الشبيه بالأحتفال يتم بمساندة الكجرة ، حيث يذهبون في هذه المناسبة وهم يحملون كميات من (المريسة ) والطعام ويتجهون إلي المغارة في الجبل المذكور ، وداخل هذه المغارة كما يذكرون توجد أحواض يوضع عليها الطعام والشراب حينئذ يبرز ثعبان لديه شارب ضخم ورأس أدمي وجسد ثعبان ومن حوله مجموعة من الثعابين الصغيرة مختلفة الأشكال والألوان ، ويشرب هذا الثعبان من ( المريسة ) إيذانا بالسماح بشربها ، وفي وقت وجود الكجرة في تلك المغارة لاجراء تلك المراسيم ، يقبع الأهالي في منازلهم ، لايخرجون عنها ، ولايوقدون نارا ويبقوا ساكنين إلي حين نزول كبارهم من الجبل ، ويعتقدون أن كبارهم هؤلاء لايأتون من الجبل وهم يحملون أرواح الأسلاف ، ويبدو أن هذا التقليد شبه الأحتفالي الذي يجريه كبار القوم في القبيلة ضربا من الوفاء لاسلافهم السابقين ، ووقاية لأسرهم من الإصابة بالأرواح الشريرة ثم يلي ذلك الاحتفال بكبير الكجرة في القبيلة ويطلق عليه اروكرتو Orocorto(38)
وفي شمال كردفان توجد هذه العقيدة عند الكاجا – كما يذكر سليجمان Seligman ويسمي هذا الجد عندهم ( أبوعلي) ويظنون أنه لم يمت لكنه غاب ، ولازالت روحه تحل ببعضهم ويصورونه في شكل ثعبان ضخم يقدمون له الذبائح التي يأكل من لحمها من تحل به روحه ، أما الكاركو فيعتقدون في امكانية رؤية الجد في مناسبات الأعياد ، ونفس الاعتقاد في الجد الثعبان نجده عند بعض مجموعات الفور في شمال دارفور، ومن جانب آخر انفرد الدلنج دون سائر قبائل الأجانق بالرمز إلي جدهم الاكبر بالحمامة ولذلك لايسمحون لأحد من أفراد القبيلة غير الكجور بتربية الحمام (39 )
التراث الشعبي للنوبا
النوبا أرض تذخر بالمعاني والقيم والثقافات المختلفة – كما أشرنا – وتتمتع بكم هائل من التقاليد والموروثات الشعبية ، وهذا العدد الهائل من الأعراف يثير الدهشة والاستغراب في هذه المساحة المحدودة من الأرض ، ويدعو إلي التأمل ومن الواضح أن النوبا يربطون ربطا وثيقا بين لهوهم ولعبهم والمراسم التي يؤدونها وبين حياتهم الروحية ، حيث تتداخل العوامل الروحية مؤثرا هاما في معاشهم وحياتهم ومناسباتهم الاحتفالية وممارساتهم . يختلط في هذه العادات الإيمان القائم بالأخلاق وبالعيش الجاهلي الذي يصور حياة الإنسان البدائي.
والنوبا إلي ذلك أهل فن يحفلون بالرسم والزينة والجمال وأبرز مايمكن أن يوضح ذلك فن الرسم علي الوجوه والأجساد الموجود لديهم في جنوب شرق أرض النوبا ، ويعتقد النوبا أن الألوان الجميلة تستخدم فقط بواسطة المقاتلين الجيدين( 40)
والزينة لاتقتصر علي زينة الرجل والمرأة إنما تشمل المنزل من الداخل والخارج ، وتزيين أدواتهم المستخدمة في مختلف اوجه النشاط الأجتماع.( 41)
وطريقة الرسم والتزيين عند النوبا تعتمد علي الخطوط المستقيمة والمتقاطعة أو الدائرية أو المثلثة أو المربعة ، والمواد المستخدمة في التلوين هي التراب الأحمر والرماد والنار، كما يستخدم النوبا الفصد بالموس والآلات الحادة حيث يفصد البطن والظهر في بدن الأنثي(42 )
أما الرجال فيوشمون علي وجهوهم وتقوم بهذا العمل إمرأة مسنة ، حيث يذهب إليها الشباب الذين ختنوا بشكل جماعي ، ويعتبرون هذا الأمر مظهرا مكملا للرجولة وهذا التقليد المقصود به معرفة الأجيال وتمييزهم عمن سبقهم ممن تم ختانهم ، ويتم عبره أيضا معرفة إن كان الشاب شجاعا يقبل علي الوشم ويتقبله أم غير ذلك ، وللفندا مثلا وشم يميزهم عن بقية قبائل النوبا الأخري ( 43)
الرقصات الشعبية الفلكلورية
تتعدد الرقصات لدي النوبا وتتنوع مناسباتها بشكل كبير لكن أغلبها مرتبط بالحصاد أو الاحتطاب أو في احتفال المصارعة أو احتفالات الموت والاحتفالات المرتبطة بصيد الحيوانات ، ومن أشهر الرقصات قاطبة ( رقصة الكمبلا ) وتؤدي هذه الرقصة حوالي 45 قبيلة من قبائل النوبا (44)
وهي واحدة من الرقصات الشعائرية التي يقف من خلفها الكجور وهي رقصة يشترك فيها النساء والرجال الذين يجعلون علي رؤوسهم قرون بقر الجاموس الوحشي وبأيديهم اجراس وذيول ابقار وحول وسط الواحد منهم حقو من سعف وتحت ركبتيه شرائح من الجلد وعلي نحره عقود ، وتقف النساء في نصف دائرة يتغنين ويرقصن ولكل واحدة منهن ذيل ثور ممسكه به ، ويقف الرجال أمامهن يقودهم واحد قوي البنية كالثور يعرف أصول الرقص ، ويسير في خط متعرج ومن خلفه الراقصون يفعلون مايفعله ، أنه الثور الأكبر قائد القطيع ، وهؤلاء كلهم يحاكون الابقار ويصدرون أصواتها ، ويجلدون بالسياط علي ظهورهم المشكوفة ، والايقاع عن الرقص يتنوع ويرتفع في أوقات ويسرع في أوقات أخري وتصاحب هذه الإيقاعات ، جلبة ( الكشكوش ) وتتعالي الزغاريد (45) هذا وصف محمد هارون كافي لرقصة الكمبلا ، أما ميعادها كما ذكر فهو عند نضج المحصول الزراعي بالمزارع الملاصقة للمنازل والبيوت ، والكجور هو المسئول عن موسم الكمبلا ، فهو ينادي لأداء الشكر علي نعمة نضج الغلة ، فهم يرجون من ذلك حسن الرزق وكماله ، ويرجون أيضا اعلان مرحلة جديدة لعدد من الصبية الذين هم في طور البلوغ للانتقال إلي مرحلة الرجولة ( 46) وتؤدي الكمبلا بالنسبة للراقص علي مدي تسع سنوات من عمره علي ثلاث مراح( 47)
ويري محمد هارون كافي أن الكمبلا كمثيلاتها من الممارسات الفلكلورية لم يحدد أحد ميقات نشأتها علي وجه التحديد ويذكر وفقا ل كوريلك N. L. Corkill أن تعرف افراد كادقلي علي هذه الرقصة يرجع عهد الملك أندو ، في بداية منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ، كما أن ( كافي) لايستبعد أن تكون هذه الرقصة ، رقصة مهاجرة من مناطق غرب إفريقيا ، كما أن هناك رأي ثالث يقول إن رقصة مشابهة كانت تمارس أبان عهد الأسرة الخامسة في مصر (48)
الأغنيات والاهازيج
تشتمل الأغاني لدي النوبا علي جانب من تاريخهم الشفاهي كما أنها تتضمن لمعاني وقيم أبناء المنطقة التي يدينون بها ويحملونها وتحتوي كذلك علي حكايات وقصص جانب منها أسطوري وهناك أغنيات للحزن تؤدي للموتي وأخري للفرح وغيرها ، وتصاحب هذه الأغاني المؤداة الطبول وأدوات الموسيقي المحلية ( 49)
المعتقدات الدينية المحلية ( الكجور )
يأتي ( الكجور ) علي رأس الحياة الدينية التقليدية لدي النوبا ، وحوله تبني وتدور كل الممارسات والمراسم للحياة الروحية لديهم ، والكجور هو الشخص الذي تحل فيه روح الجد وتدخله في غيبة تقام له في نهايتها طقوس يتولي بعدها هذه المهمة ، ويصبح هذا الوسيط بين الناس وتلك الروح ، ويملك القدرة علي تلقي الأوامر منها ونقلها إلي أفراد قبيلته ، وقد عرف هذا النوع من الاعتقاد لدي العديد من القبائل الإفريقية (50 )
ولفظة ( الكجور ) تماما كلفظة ( السبر) ذاع استخدامهما في مناطق جبال النوبا علي اختلاف لغاتها ، فكل من هاتين الكلمتين تختلف في لفظها من جماعة لأخري ، ولكنها علي ذلك ذلعت علي هذا النحو حتي أدركها الناس بهذه الصورة ، وهي في اللغات المحلية نجدها تارة تأمصلا t, a: mulsala وبيل Bel وكني Kuni وأبدي Abade فلكل قبيلة لغتها التي تختلف عن الآخري (51 )و ( الأما ) يفرقون بين الكجور ، وبين الأله الأعظم ، فالرب الكبير هو ( أباردي) والكجور هو( أبان كوني ) وهو أصغر من الإله الأعظم ، فهو بمثابة وسيط يلجأ إليه الناس في حياتهم ليساعدهم في قضاء حوائجهم لدي الرب الأعظم – بحسب معتقداتهم – (52 )
فكلمة كجور باللغة المحلية أي كان لفظها فهي لاتعني مانقصده بالعربية ( الله)
وقد تعني هذه الكلمة القدرة العظمي ولكن ليس علي النحو الإسلامي أيضا لفهم هذا المصطلح (53 )
والكجور كذلك لايعني الإنسان ، ولكنه يشير إلي الروح الخارقة أو القدرة الفائقة التي تتقمص هذا الإنسان والكجور دائما يتخذ اسمه مقرونا بالرب للدلالة علي إنه شخص له ظلال ربانية – بحسب مدلولات الكلمة – فإذا قلنا t, a: mulsala وهي تعني الكجور بلغة كادوقلي فهو مأخوذ musala أي الاله ، والتاء هنا ( ta ) أداة لتوضيح الانتساب الروحي (54 ) ويمكن فهم هذه المسألة علي ضوء النظر في الإشكالية القائمة في ترجمة معني كلمة God الانجليزية ، فهي علي نحو مايري بعضهم لاتشير أو لا تطابق معني كلمة (الله ) في اللغة العربية ( 55) ويعتقد بعضهم ان الكجور ماهو إلا روح شيطانية تتغمص بعض الناس وتؤثر بهم وتدفعهم الي القيام ببعض الأعمال الخارقة للعادة ، ويستدلون علي ذلك بأن الإسلام عندما انتشر في المنطقة ، وكثر الآذان ، ضعفت قوي الكجور ، ولبعضهم تجارب شخصية تظهر أن( التكجير) يبطل مفعوله عند قراءة القرآن ، في آثناء أداء الكجور لطقسه ( 56) وللكجور في السابق دور اجتماعي رائد ، كما كان يمثل روح القبيلة ورجلها المسيطر ، الذي يرتب أوضاعها ، وينظم حياتهم ، فهو الذي ينتقم من العصاة المارقين علي عرف المجموعة فيقتص من الزناة والسارقين والمخالفين للتقاليد ، يستعين في ذلك – بحسب معتقدهم – بقوي الطبيعة الصواعق والأمراض وغيرها ، وكانت الناس تستجيب لأوامره بشكل كامل ، فهو الراعي علي القيم الضابط للأخلاق ، وعنده تجتمع جميع خيوط الحياة الإنسانية لدي النوبا (57 )
والكجور يعمل علي استجلاب القوي الخفية والأرواح لتساعده علي شفاء المرضي أو أنزال المطر أو الحفظ من الكوارث والمصائب وهلم جرا (58 ) ومقدرات الكجور لاتورث أو تنتقل إلي ابنائه عند وفاته بالضرورة ، كما أن الكجور لاينتخب أو يختار من قبل الأهالي ، وأنما قد تنتقل روح الكجور وتتنزل علي شخص ليس من سلالة كجرية رجلا كان أم أمرأة ، وليست له علاقة سابقة بهذا العالم ، فتؤول اليه هذه السلطات ، وقد جرت العادة أن يشيد الكجور منزله في مكان مرتفع بحيث يكون ظاهرا للعيان مميزا عن بقية المنازل في المنطقة ، وتحتوي حجرته الخاصة علي أدواته التي يستعملها في التكجير وفيها عصاة مدببة من أعلي وحادة من الأسفل ، وبعض الثمار الجافة من نباتات القرع ( البخسة ) وريش الطيور ، وقرون الحيوانات التي يرتديها في أوقات الأحتفالات ، ويمتلك أيضا جميع مخلفات من سبقه في هذا المجال (59 ).
ولكل كجور اختصاصه الذي يختلف عن كجور آخر ، فعندا الفندا مثلا ، يوجد كبير الكجرة أروعلماOroelma وهو المشرف علي اعمال الكجرة ولكنه لايملك السلطة للتدخل في المراسم التي يؤدونها ، وهو مع ذلك مختص بالختان الجماعي ، ويوجد كجور السفر أرو شرOroshada وهذا الكجور لايحق لاي شخص من أبناء الفندا إذا ما رغب في الرحيل إلا إذا مرّ علي منزله عند سفره أو لدي رجوعه ، ويوجد أيضا ارو كوقا Orokga وهو معني بالثروة الحيوانية بالمنطقة ، فهو يقوم بحمايتها ، وللسائمة أهمية خاصة في الأعراف القبلية ، إذ أنها تدخل في جميع الأسبار ، التي تقام وعلي وجه الخصوص في احتفالات الزواج والمأتم ، ويرجع إلي هذا الكجـور السماح للأفراد أن يأخذوا من مواشيهم ، ويوجد كذلك أرو بودOrobodal وهو جالب الأمطار ، واروناما Oronamaوهو مختص بالزراعة وارو كقاقلOrocagagol وهو مسئول عن حماية الزراعة من الآفات الزراعية ، وارو اروما Oroarma وهو القائم باعمال الدفاع عن القبيلة ، وارو أتلا Oroatal ويرجع إليه عند حفر الآبار أو مجاري الماء ، وهلم جرا (60 )
والكجور الأكبر لاتفارقه الروح المتقمصة البتة ، أما صغار الكجرة فمن الممكن ان تتخلي عنهم تلك الروح(61 )
ولعل أبرز المراسم التي تؤدي بشكل احتفالي يقوم بها الكجور هو طقس انزال المطر ، وتذبح فيه القرابين (62 ) ووفقا لأحمد عبدالرحيم نصر ، فإن أن هناك أربعة أسبار يمر بها من تتقمصه الروح ليصير كجورا ، وهذه الأسبار عند النيمانق هي : ونالابيجوWenlabiju وتعني رمي الأدران ، ودفراتي Difirautey أي دخول الراكوبة ، وتوفول نيدا TufulNida وتعني خبط المعوقات ، وكدملا Kudmala وتعني الدجاج(63)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عبدالباقي حسن فيرين ، أضواء علي تاريخ التطور اللغوي في جبال النوبة (1) المشكلات وأفاق الحلول من منظور تأصيلي ، مقال جريدة الصحافة الثلاثاء 28 ذو القعدة 1424هـ الموافق 20 يناير 2004م العدد ( 3826) ص ، 3
[2] محمد هارون كافي ، الكجور ، مرجع سابق ص ص 28 ، 29
[3] نفسه ، ص 30
[4] مقابلة ، مع خضر محمود ونيلا
[5] لايف مانجز ، لفوفة النوبة من الجبال إلي السهول ، ترجمة مصطفي محمد الجمال ، مركز البحوث العربية ، ص 88
[6] لايف مانجز ، المرجع السابق ، ص 89
* الفندا احدي المجموعات المتفرعة من الأجنق ، وتقع منطقتهم غرب محافظة الدلنج بحوالي 25 كلم في الجانب الشمالي الغربي في وسط الجبال ، وفي السابق كانت هذه المنطقة تعيش في عزلة حضارية كاملة ، ويبلغ تعداد هذه المجموعة حولي 000ر2 نسمة ، وينتشر الفندا في مناطق شينا – ارو – كلي – انجج – طمبي ) ويتميز الفنداويون بطول القامة ، ويعملون بشكل رئيسي الزراعة والرعي والصيد ، انظر : حماد حامد حماد ديمو والصادق كودي جبر الدار الفندا في جبال النوبا – دراسة اجتماعية وثقافية ( مخطوط ) ص ص 6 ، 7 ، 8
[7] حماد حامد حماد ديمو والصادق كوري جبر الدار ، الفندا في جبال النوبة دراسة اجتماعية وثقافية ( مخطوط ) ص 16
(*) شراب محلي معروف في أنحاء السودان المختلفة مسكر ، يصنع من الذرة بعد تخميرها وهو أقرب إلي الغذاء منه للشراب
[9] حماد حامد حماد والصادق كوري جبر الدار ، الفنداء مرجع سابق ص 24
[10] مقابلة مع خضر محمود ونيلا
[11] حماد حامد حماد والصادق كودي جبر الدار ، الفندا ، مرجع سابق ص 24
[12] نفسه ص 26
[13] نفسه ، ص 27
[14] حماد حامد حماد والصادق كوري جبر ، الدار المرجع السابق ص 27
[15] نفسه ، ص 27
[16] نفسه ، ص 169 ، أيضا مقابلة مع خضر محمود ونيلا
[17] حماد حامد حماد والصادق كودي جبر الدار ، الفندا ، مرجع سابق ص 30
[18] عفاف تاور كافي ، جبال النوبة عبر تنوع العقائد وجدل المعتقدات في السودان ، أرو للطباعة والتجارة العامة ( بدون تاريخ )ص 18
[19] المرجع السابق ص 18
[20] الصادق عيسي عطرون مكين أضواء علي منطقة جبال النوبة ، مرجع سابق ص 20
[21] لايف مانجز، لفوفة الجبال ، مرجع سابق ص 93
[22] نفسه ، ص ص 93 – 9 4
[23] محمد هارون كافي ، الكجور ، مرجع سابق ص 99
[24] خليفة جبر الدار خليفة ، كتابة لغة الاجانق ، مرجع سابق ص ص 28 ، 29
[25] مقابلة مع خضر محمود ونيلا
[26] خليفة جبر الدار خليفة ، المرجع السابق ص 29
* يدين معظم أهل تلشي بالاسلام ولكن معرفتهم به قليلة وينتشرون بصورة أساسية في قري : لمبو ، رأس الفيل ، السعادة ، تردي كرلانجة ، شوة ، سرفاي ، انظر محجوب اسماعيل ، ورقة بحثية عن قبيلة تلشي ، معهد مبارك قسم الله لتدريب الدعاة كلية الدعوة والإعلام جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية ( غير منشورة ) ص 2
[27] محجوب اسماعيل ، المرجع السابق ص 6
[28] مقابلة مع خضر محمود ونيلا ، أيضا خديجة موسي عبدالرحمن ، قبيلة ميري برة ، ورقة بحثية ، معهد مبارك قسم الله للبحوث واعداد الدعاة ، جامعة القرأن الكريم والعلوم الإسلامية 2004 ،( غير منشورة ) ص 5
29 Lemi , Riefenstahl, The Last Nuba , London 1976 ,P. 171
30 Ibid
31 Leni , Riefenstahl , The Last of Nuba Op. cit ,. P 171
32 عفاف تاور كافي ، جبال النوبة ، مرجع سابق ص 18
33 نفسه ، ص 19
34 خليفة جبر الدار خليفة ، كتابة لغة الأجانق ، مرجع سابق ص 30
35 حماد حامد حماد والصادق كودي جبر الدار ، الفندا .. مرجع سابق ص ص 78/ 79
36 نفسه ، ص 41
37 مرجع سابق ص ص 158 ، 159
38 حماد حامد حماد والصادق كودي جبر الدار ، الفندا .. مرجع سابق ص ص 43 ، 44
39 مرجع سابق ص 159
40 Lemi Riefenstahi ,The People of Kau , translated from the German by J. Max Well London 1976 P. 2222
41 عبدالعزيز خالد فضل الله ، جبال النوبة إثنيات وتراث ، مرجع سابق ص 93
42 نفسه ، ص ص 94 ، 95
43 حماد حامد حماد والصادق كودي جبر الدار ، الفندا .. مرجع سابق ص 13
44 خديجة موسي عبدالرحمن ، قبيلة ميري برا ورقة بحثيةجامعة القرآن الكريم معهد مبارك قسم الله للبحوث وتدريب الدعاة 2004 غير منشورة ص 6
45 محمد هارون كافي ، الكجور ، مرجع سابق ص ص 118 إلي 122
46 نفسه ، ص 122
47 عبدالعزيز خالدفضل الله ، جبال النوبة ،، مرجع سابق ص 111
48 محمد هارون كافي ، الكجور .. مرجع سابق ص ص 127 ، 128
49 انظر : حماد حامد حماد والصادق كودي جبر الدار ، الفندا مرجع سابق صفحات 78 ومابعدها أيضا محمد هارون كافي ، الكجور ، مرجع سابق صفحات 147 ومابعدها .
50 S.F. Nadel , Ashaman Culte in the Nuba Mountains S.N. R. Vol 24 , 1941 PP 85- 112 P. 85
51 محمد هارون كافي ، الكجور . مرجع سابق ص 35
52 مقابلة مع خضر محمود ونيلا
53 محمد هارون كافي ، الكجور مرجع سابق ص 40
54 نفسه ، ص ص 44 ، 45
55 نفسه ص 40
56 مقابلة مع جولي أرقوك
57 مقابلة مع خضر محمود ونيلا
58 علي خليفة تية ، الوثنية في جبال النوبة ، ورقة بحثية مقدمة للمؤتمر الدعوي الأول للمرأة في جنوب كردفان كادوقلي 1989 – اتحاد عام المرأة غير منشورة صفحات 3 ومابعدها .
59 حماد حامد حماد والصادق كودي جبر الدار ، الفندا .. مرجع سابق ص 56
60 حماد حامد حماد والصادق كودي جبر الدار ، الفندا .. المرجع السابق صفحات 55 ومابعدها .
61 محمد هارون كافي ، الكجور ، مرجع سابق ص 56
62 علي خليفة تية ، الوثنية في جبال النوبة ، مرجع سابق ص 36
63 أحمد عبدالرحيم نصر ، الكجور عند النيمانج ، مجلة الدراسات السودانية العدد الثاني ، المجلد الاول يونيو 1969 ، ص 44